الليبرالية.. ما بين المصطلح والمفهوم

د. عبدالله الزازان

نحاول في هذه المراجعة الثقافية أن نقف على دلالة المصطلح والمفهوم في الفكر الليبرالي، وبرغم أن هنالك فارقاً بينهما إلا أن الليبرالية تنتسب إلى منظومة المفاهيم، ولذلك دخلت الليبرالية في تعدادات دلالية ونظرية وسياقات فكرية مختلفة أخذتها خارج إطارها الفكري.

تنظر الموسوعة الفلسفية إلى أن الليبرالية كغيرها من الظواهر الفكرية تحمل دلالات مختلفة ولا يوجد اتفاق حول مفهوم محدد لها، ويتفق جميع الدارسين على عدم الوصول إلى تعريف دقيق متفق عليه، بل إن بلورة تعريف واضح ودقيق لمفهوم الليبرالية أمر غير ممكن وربما عديم الجدوى. ويرجع السبب في صعوبة تحديد المفهوم لارتباطه بإشكالات كبرى تعاني منها أغلب مفاهيم العلوم الاجتماعية والإنسانية فالمفاهيم ليست مجرد ألفاظ يمكن الوصول إلى دلالاتها عن طريق المعاجم بل هي أفكار مجسدة للواقع وموصولة بالتاريخ بما فيه من تدافع وصراع واختلاف وتوافق، وهذا ما يجعل المفهوم يأخذ معاني متعددة حسب القراءة المقدمة، بما يعني أن الحديث عن ليبرالية واحدة هو سقوط في دائرة التعميم، وهذا بطبيعة الحال يولد خلطًا والتباسًا في المفهوم نفسه.

ومع ذلك يمكن القول: إن الليبرالية مصطلح مشتق من الكلمة اللاتينية (liber) حيث يؤكد الدكتور عبدالله العروي أن الليبرالية تعتبر الحرية المبدأ والمنتهي، والباعث والهدف والأصل والنتيجة في حياة الإنسان. ولذلك فإن الليبرالية لم تتخذ مصطلحًا أو مفهومًا واحدًا يمكن البناء عليه إذ إن مجموعة من الإشكالات الفكرية المتعلقة بالليبرالية تحتاج إلى البحث والتدقيق. فالفكر الليبرالي لم يتشكل على يد مفكر واحد أو في زمن واحد بل اشترك في وضع أصوله عدد من المفكرين في أزمنة وأمكنة مختلفة فهو خلاصة تجربة إنسانية امتدت أربعة قرون شكلت نمطًا فكرياً عامًا ومنظومة متشابكة من المعتقدات والمبادئ والقيم والمنطلقات.. نتج عن ذلك تنوع وأحيانًا تعارض في تحديد مفهوم هذا المصطلح تبعًا لتطور هذا الفكر أو الزاوية التي ينظر المفكر من خلالها لهذا المصطلح أو البعد الزمني أو المكاني لإطلاق هذا المفهوم أو ذاك.

وقد ساهم عدد كبير من المفكرين في صياغة الفكر الليبرالي وكان من أشهرهم جون لوك (1632 – 1704م) وآدم سميث (1732 – 1790م) وجان فرانسوا فولتير (1694 – 1878م) وجان جاك روسو (1712 – 1778م) وجيرمي بنثام (1748 – 1832م) وأليكسيس دي توكفيل (1805 – 1859م). وجون ستيوارت مل ( 1873 1806).

ويعود أصل المصطلح إلى تعريب كلمة (liberalism) في الإنجليزية وكلمة (liberalisme) في الفرنسية وهي تعني التحررية ويعود اشتقاقها إلى (liberty) في الإنجليزية، و(liberte) في الفرنسية ومعناها الحرية. فعندما نقف على بعض تعريفات الليبرالية في بيئتها الغربية تظهر لنا مجموعة من التعريفات المختلفة: فقد عرفها الفيلسوف (جان جاك روسو) بأنها الحرية الحقة في تطبيق القوانين التي شرعناها لأنفسنا.. وعرفها المفكر الفرنسي (لاشلييه) الليبرالية هي الانفلات المطلق.. وعند الفيلسوف (هوبز) بأنها غياب العوائق الخارجية التي تحد من قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء.. وعند المفكر (هاليفي) بأنها الاستقلالية عن العلل الخارجية فتكون أجناسها: الحرية المادية، والحرية المدنية أو السياسية، والحرية النفسية، والحرية الميتافيزيقية الدينية.. وفي موسوعة لالاند الليبرالية هي انعدام الموانع والعوائق.. وفي الموسوعة الأمريكية الأكاديمية: الليبرالية هي فلسفة سياسية تركز على الحرية الفردية.

وقد دخلت الليبرالية دائرة التعريفات العربية فيعرفها منير البعلبكي بأنها فلسفة سياسية ظهرت في أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر ثم اتخذت أشكالاً مختلفة وفي أزمنة وأمكنة مختلفة اتسمت بسمة تقدمية.. وترى الموسوعة العربية العالمية أن الليبرالية فلسفة اقتصادية وسياسية تؤكد على الحريات والمساواة وإتاحة الفرص.. وفي المعجم الفلسفي: الليبرالية هي نظرية سياسية ترقى إلى مستوى الأيديولوجيا إذ تزعم أن الحرية أساس التقدم.. وتعرفها الموسوعة الميسرة: بأن الليبرالية مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة.. ويعرفها الدكتور سيار الجميل: الليبرالية مذهب فكري وسياسي ينادي بالحرية المطلقة في الميدان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.. ويعرفها د. توفيق الواعي: الليبرالية أيديولوجية جامعة تتفاعل في بوتقتها الفلسفات الأربع: الوضعية والوضعية المنطقية والبراغماتية والوجودية.

والليبرالية فكرة ليست من نتاج مفكر واحد، ولا وليدة بيئة ثقافية أو ظروف زمنية واحدة، فقد تعددت تعريفاتها بعد أن استقرت فلسفة فكرية غربية تنزع إلى المادية والفردية، والتحرر من كل قيد أو ثابت وأن كان ما تقدم من تعريفات يغلب عليها الطابع المعجمي ويجد المتأمل فيها خصائص ومشتركات لا يكاد ينفك عنها مفهوم من هذه المفاهيم فهي بحسب هذه المفاهيم مذهب إنساني مادي ينطلق من الإنسان ويتوجه إليه وينتهي به معليًا من قيمته.

وليست الليبرالية مجرد طريقة تفكير فحسب، بل هي منظومة فكرية كلية تتناول الحياة الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، كما تشتمل المناهج الفكرية والعملية. فالليبرالية تقوم على الحياد التام تجاه كل العقائد والملل والمذاهب لكل فرد أن يعتنق ما يشاء وله الاستقلال التام في ذلك لا يجبر على فكر أبداً ولو كان حقاً وهو ما عبر عنه هاليفي بالحرية المتافازيقية، فهو بهذا المعنى يحقق العلمانية في الفكر.

ولذا لا نجد دولة تتصف بالليبرالية إلا وهي علمانية المذهب في الفكر والتطبيق ومن خلال هذه المفاهيم، يمكن تلمس الأسس والمكونات التي يقوم عليها الفكر الليبرالي والتي عبر عنها جون جراي بالفردية والحرية العقلانية فالفردية تمثل الأساس الفلسفي للمفهوم الليبرالي والحرية هي جوهر الليبرالية، والعقلانية تشكل الحارس على اختيارات الإنسان الليبرالي، وقد يضيف بعض الباحثين خاصيتي العلمانية والنفعية اللتين يصعب تصور الليبرالية بدونهما.

المصدر : alriyadh

قد يعجبك ايضا